.قال الشعراوي:
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}.وعلى ذلك فهي خمس مراحل- إذن-، أكررها لتستقر في الذهن، أولها أنه من الجائز أنه لا يَخلُق، ومن الجائز أن يكون مخلوقًا، ومن الجائز أنه لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك.وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون: يا هبل، يا لات، يا عزى. وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف: 193].أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تمامًا كصمتكم.ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف
{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} فلم يقل: أدعوتموهم أم صَمَتّم؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام. أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبدًا؛ لذلك جاءت
{صامتون} لازمة، لأنها اسم، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد.والحق هنا يبلغ المشركين: سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم. اهـ.
.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ إِلَى دِينِ التَّوْحِيدِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزِلَ اللهُ، وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، وَتَلَاهُ التَّذْكِيرُ بِنَشْأَةِ الْإِنْسَانِ الْأُولَى فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ اخْتُتِمَتْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى. وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ، وَاتِّبَاعِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، صَوَّرَهَا بَشَرًا سَوِيًّا وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا سُكُونًا زَوْجِيًّا، أَيْ: جَعَلَ لَهَا زَوْجًا مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَا زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (49: 13) كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ وَكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (51: 49) وَإِنَّنَا نُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ خَلِيَّةٍ مِنَ الْخَلَايَا الَّتِي يُنَمَّى بِهَا الْجِسْمُ الْحَيُّ تَنْطَوِي عَلَى نُوَيَّتَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، يَقْتَرِنَانِ فَيُوَلَّدُ بَيْنَهُمَا خَلِيَّةٌ أُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَنَعْلَمُ أَيْضًا كَيْفَ يَتَكَوَّنُ فِي الْأَرْحَامِ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (53: 45، 46) وَلَكِنَّنَا لَا نَدْرِي كَيْفَ ازْدَوَجَتِ النَّفْسُ الْأُولَى بَعْدَ وَحْدَتِهَا فَكَانَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى:
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (18: 51) وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، أَيْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِ، فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشُّرَّاحُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهَا مِنْهُ أَنَّهَا ذَاتُ اعْوِجَاجٍ وَشُذُوذٍ تُخَالِفُ بِهِ الرَّجُلَ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
«إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ» فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (21: 37) وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ مِنْ ضِلْعِهِ الْقَصِيرِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ الْيُسْرَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ لَحْمٌ، وَمَعْنَى خُلِقَتْ أَيْ أُخْرِجَتْ كَمَا تَخْرُجُ النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ جَعْلَ الْحَافِظِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ بَابِ الْإِشَارَةِ، وَحِكَايَتَهُ لَهَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَفْسِيرِهَا الْغَرِيبِ بِتَشْبِيهِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ- عَلَى سِعَةِ حِفْظِهِ- عَلَى قَوْلٍ لِمَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَقْوَالِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْخَلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ بِمِثْلِ مَا حَكَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نَشْأَةِ جِنْسِهِمْ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ فِي بَيَانِ آيَاتِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (30: 21) فَهَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ لَا خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ.عَبَّرَ التَّنْزِيلُ عَنْ مَيْلِ الزَّوْجِ الْجِنْسِيِّ إِلَى جِنْسِهِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ بِالسُّكُونِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا بَلَغَ سِنَّ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا خَاصًّا، لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِزَوْجٍ مِنْ جِنْسِهِ وَاتَّحَدَا، ذَلِكَ الِاقْتِرَانُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُمَا الْجِنْسِيَّةُ الْمُنْتِجَةُ إِلَّا بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا إِلَخْ. الْغِشَاءُ غِطَاءُ الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتُرُهُ مِنْ فَوْقِهِ، وَالْغَاشِيَةُ الظُّلَّةُ تُظِلُّهُ مِنْ سَحَابَةٍ وَغَيْرِهَا
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 1) أَيْ يَحْجُبُ الْأَشْيَاءَ وَيَسْتُرُهَا بِظَلَامِهِ، وَتَغَشَّاهَا أَتَاهَا كَغَشِيَهَا وَيَزِيدُ مَا تُعْطِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ مِنْ جُهْدٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ نَزِيهَةٌ عَنْ أَدَاءِ وَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَأَدَبَ الشَّرِيعَةِ فِيهَا السِّتْرُ، وَلَفْظُ النَّفْسِ مُؤَنَّثٌ فَأُنِّثَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَلَفْظُ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِهَذَا ذُكِرَ هُنَا فَاعِلُ التَّغَشِّي وَأُنِّثَ مَفْعُولُهُ. أَيْ فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الزَّوْجَ الَّتِي هِيَ الْأُنْثَى حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا أَيْ عَلِقَتْ مِنْهُ وَهُوَ الْحَبَلُ، وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَلَى الْمَحْمُولِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ، وَأَنَّ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ وَنَحْوِهِ يُسَمَّى حِمْلًا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَالْحَمْلُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ خَفِيفًا لَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَشْعُرُ بِهِ. وَقَدْ تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ حَيْضَتِهَا فَمَرَّتْ بِهِ أَيْ فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْدَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ فِي أَعْمَالِهَا وَقَضَاءِ حَاجَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا اسْتِثْقَالٍ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِ حَمْلِهَا وَقَرُبَ وَضْعُهَا دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: تَوَجَّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى رَبِّهُمَا يَدْعُوَانِهِ فِيمَا انْحَصَرَ هَمُّهُمَا فِيهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَمْلِ عَلَى سَلَامَةٍ بِأَنْ يُعْطِيَهُمَا وَلَدًا صَالِحًا، أَيْ سَوِيًّا تَامَّ الْخَلْقِ يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ النَّافِعَةِ- وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَبِّهِ، فِيمَا لَا يَمْلِكُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَسْبَابَهُ، دَعَوَاهُ مُخْلِصَيْنِ مُقْسِمَيْنِ لَهُ عَلَى مَا وَطَّنَا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمَا مِنَ الشُّكْرِ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَائِلَيْنِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا لَنَكُونُنَّ مِنَ الْقَائِمِينَ لَكَ بِحَقِّ الشُّكْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمُعَرَّفُ.فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ: فَلَمَّا أَعْطَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا لَا نَقْصَ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فَسَادَ فِي تَرْكِيبِهِ، جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِي إِعْطَائِهِ أَوْ فِيمَا أَعْطَاهُ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا، أَوْ ظُهُورِ مَا هُوَ رَاسِخٌ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَسَنُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ
{جَعَلَا لَهُ شِرْكًا} أَيْ شَرِكَةً أَوْ ذَوِي شِرْكٍ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَعَالَى شَأْنُهُ عَنْ شِرْكِهِمْ؛ فَإِنَّهُ هُوَ مُعْطِي النَّسْلِ بِمَا خَلَقَهُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْضَاءٍ، وَقَدَّرَ لَهُمَا فِي الْعُلُوقِ وَالْوَضْعِ مِنْ أَسْبَابٍ، لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ هُنَا بَعْدَ تَثْنِيَتِهِ الْأَفْعَالَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالزَّوْجَيْنِ الْجِنْسُ لَا فَرْدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي
{آتَيْتَنَا} و
{لَنَكُونَنَّ} لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ يَتَنَاسَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. وَالْآيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ لِحَالِ الْبَشَرِ فِيمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْجِنْسُ يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَبِبَعْضِ أَفْرَادِهِ.فَمِثَالُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ فِي إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالنَّسْلِ، مَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الْأَسْبَابِ فِي سَلَامَةِ الْحَامِلِ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْلِ أَوْ فِي حَالَةِ الْوَضْعِ، وَفِي سَلَامَةِ الطِّفْلِ عِنْدَ الْوَضْعِ وَعَقِبِهِ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ التَّشْوِيهِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، كَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ فَعَلْنَا كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ مِنْ طَبِيبٍ أَوْ مُرْشِدٍ أَوْ قَابِلَةٍ لَهَلَكَ الْوَلَدُ أَوْ لَأُجْهِضَتْ أُمُّهُ إِجْهَاضًا أَوْ جَاءَتْ بِسَقْطٍ لَمْ يَسْتَهِلَّ، أَوْ لَمَاتَ عَقِبَ إِسْقَاطِهِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحَيَاةِ، وَيَنْسَوْنَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَضْلَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَذْكُرُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا- ذَلِكَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَمَسُّهُمْ، أَوْ نِقْمَةٍ يَدْفَعُهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهَذَا الشِّرْكُ لَيْسَ خُرُوجًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ نَقْصٌ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشِّرْكِ هُنَا تَرْجِيحَ حُبِّ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى، وَشُغْلِهِمْ لِلْوَالِدَيْنِ عَنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَإِيثَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْتِزَامِ مَا شَرَعَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ لَا نَقْضٌ لَهُ، وَغَفْلَةٌ عَنْهُ لَا جَحْدٌ بِهِ.وَمِثَالُ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ: إِسْنَادُ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ، أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَوْ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ أَوْ بِمِثْلِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ، يَقُولُونَ: لَوْلَا سَيِّدِي فَلَانٌ وَلَوْلَا مَوْلَانَا عِلَّانٌ لَمَا كَانَ كَذَا مِمَّا نُحِبُّ، أَوْ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا نَكْرَهُ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ فِيمَا كَانَ مِنْ نَفْعٍ وَمَنْعِ ضَرَرٍ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ، هُوَ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا، أَقْرَبُهَا مَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: وَارْتَفَعَ مَجْدُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، تَنَزُّهًا عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءِ أَوْ عَنْ شُرَكَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي خَلْقِهِ، أَوْ تَأْثِيرٌ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.كُنْتُ قَرَأْتُ مُنْذُ سِنِينَ جُلَّ مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَأْثُورٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا أَوْرَدُوهُ فِيهَا مِنَ الْإِشْكَالِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الْجَوَابِ عَنْهُ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ، وَلَمَّا أَرَدْتُ كِتَابَةَ تَفْسِيرِهَا الْآنَ لَمْ أَجِدْ مِمَّا فِي ذِهْنِي مِنْهُ شَيْئًا مُرْضِيًا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبِي، فَتَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفَكَّرْتُ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَفِي بَيَانِ كِتَابِهِ لِحَقَائِقِ أَحْوَالِهِمْ، فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَا فِي فِرَاشِي، ثُمَّ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، ثُمَّ بَحَثْتُ فِيمَا عِنْدِي مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَكْتُبَ خُلَاصَةَ مَا قِيلَ فِيهَا، وَأَنْظُرَ فِيمَا عَسَاهُ يُؤَيِّدُهُ، وَأُجِيبُ عَمَّا رُبَّمَا يُفَنِّدُهُ، فَإِذَا أَنَا بِصَاحِبِ الِانْتِصَافِ يَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَلِمَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ضَمِيرَيِ الْجَمْعِ مَا نَصُّهُ: وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى مُعَيَّنٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَاللهُ أَعْلَمُ: خَلَقَكُمْ جِنْسًا وَاحِدًا وَجَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ مِنْكُمْ أَيْضًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا تَغَشَّى الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الْجِنْسَ الْآخَرَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (19: 66)
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (80: 17)
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (103: 2) اهـ.